تونس- نقدٌ مزدوجٌ لِعشريّةِ الانتقال الديمقراطيّ وسبُلِ إعادةِ التّأسيس.

المؤلف: جلال الورغي08.23.2025
تونس- نقدٌ مزدوجٌ لِعشريّةِ الانتقال الديمقراطيّ وسبُلِ إعادةِ التّأسيس.

تحلّ هذه الأيام الذكرى الرابعة للانقلاب الذي قاده الرئيس قيس سعيد في تونس، والذي أطاح بالمسار الديمقراطي وأنهى العمل بالمؤسسات المنبثقة عن دستور ديمقراطي استمرّ عقدًا كاملاً من الزمن.

هذا المسار، الذي جعل تونس في نظر العديد من المراقبين والمهتمين بالتحولات الديمقراطية بمثابة "استثناء ديمقراطي" في منطقة تعادي الديمقراطية، اختار قيس سعيد أن يضع حدًا له وأن يفكك جميع مؤسساته، معتبرًا أن تلك الحقبة الزاهرة من المسار الديمقراطي ما هي إلا "عشرية سوداء" مليئة بالإخفاقات.

وفي خضمّ هذا الجدل المستمر حول هذه التجربة المميزة التي استقطبت اهتمام العديد من الخبراء والباحثين من العرب والأجانب، يظهر كتاب المفكر التونسي عز الدين عبد المولى "الانتقال الديمقراطي في تونس (2011-2021): مراجعات نقدية للمسار والأدوار"، ليقدم لنا رواية موثقة، من خلال قراءة تحليلية لتجربة الانتقال الديمقراطي، مؤطرًا إياها ضمن ثلاثة مفاهيم أساسية خلافية، وهي: مفهوم الثورة، ومفهوم الانتقال الديمقراطي، ومفهوم الانقلاب. ويمكن الجزم بأن هذه المفاهيم الثلاثة تمثل الإطار العام لهذه العشرية، كثورة ومسار وانقلاب.

وبالرغم من أن الجدل الدائر لم يستمر طويلًا حول أحداث تونس في الفترة 2010-2011، وما إذا كانت ثورة أم انتفاضة شعبية، بعد أن حسمت الطبقة السياسية الأمر، وانعكس هذا الحسم دستوريًا من خلال تبني فكرة الثورة.

لقد أثبتت تجربة "الانتقال الديمقراطي"، بما حققته من توافقات سياسية، وما أفرزته من مؤسسات دستورية، وما نشرته من ثقافة سياسية متسامحة، أنها بالفعل قد خطت خطوات جادة في طريق التحول نحو ثقافة ديمقراطية حقيقية، على الرغم من المصاعب والعثرات ثم الانتكاسات التي واجهتها.

لذلك، خلص الكاتب في هذا السياق إلى القول بأنه "بعد مراجعة متأنية لمسار الثورة التونسية، وتقييم نقدي لأدوار الفاعلين فيها وفي المرحلة الانتقالية، يمكن التأكيد دون مبالغة: أن عقد الانتقال الديمقراطي الذي عاشته تونس بين عامي 2011 و2021، بكل ما حققه من إنجازات وما واجهه من إخفاقات، يمثل قمة ما وصل إليه المجتمع العربي الحديث على صعيد الإدارة السياسية التشاركية السلمية للشأن العام".

أما فيما يتعلق بمفهوم "الانقلاب"، فإن الجدل الذي أثاره قد تفجر على خلفية إصرار قيس سعيد على أن ما قام به لم يكن انقلابًا عسكريًا، وإنما هو مجرد تصحيح للمسار السياسي، وهو موقف أيدته فيه بعض القوى السياسية والمنظمات المدنية، بدوافع سياسية حزبية ضيقة ولا تستند إلى أي تفسير دستوري أو مؤسساتي سليم.

ولم تمضِ سوى أشهر معدودة على تاريخ 25 يوليو/تموز 2021، حتى أكد قيس سعيد وبرهن، من خلال سلسلة من الإجراءات التي قوض بها جميع المؤسسات الدستورية والمكتسبات السياسية والحقوقية، مكرسًا نفسه كسلطة مطلقة، على أن ما أقدم عليه كان انقلابًا متكامل الأركان، لا يمت بأي صلة لمفهوم تصحيح المسار، أو إنقاذ الثورة من الضياع.

وفي تقييمه الدقيق لتجربة الانتقال الديمقراطي، رأى عبد المولى أن النخبة التونسية، بعد أن انخرطت بتعاون وتشارك في تأسيس إطار واعد للانتقال الديمقراطي، من خلال توافقاتها وتفاهماتها المتبادلة وتقديم المصلحة المشتركة على خلافاتها السياسية والفكرية، ونجحت في وضع الأسس لديمقراطية فتية ورسم خارطة طريق ناجحة إلى حد كبير في وضع لبنات نموذج سياسي تشاركي قابل للحياة والاستمرار، سرعان ما تحول هذا النهج في مرحلة لاحقة إلى مقاربة قائمة على خلق الأزمات بدلًا من الحوار البناء، وتعطيل المسار بدلًا من دفعه إلى الأمام.

لقد انقسمت النخبة التونسية، وغلبّت الحسابات الضيقة والمصالح الآنية على المصلحة العامة العليا، مما خلق بيئة هشة منذ البداية لتعميق الأزمات التي وجد فيها قيس سعيد مبررًا واهيًا للانقضاض على التجربة الديمقراطية وإعادة تشكيل النظام السياسي وفقًا لأفكار ورؤى فردية متطرفة لا تمت للديمقراطية وقيمها المشتركة بأي صلة.

فالنخبة التونسية، بجميع أطيافها السياسية والاجتماعية والإعلامية والفكرية، قد أسهمت بشكل أو بآخر، حسب رأي الكاتب، في إفشال الانتقال الديمقراطي، وفي تهيئة الأرضية الخصبة للانقلاب عليه بعد أن كانت شريكة في تأسيسه ودفعه إلى الأمام في بداياته.

إلا أن الكاتب لفت الانتباه إلى عاملين أساسيين إضافيين ساهما بشكل كبير في هشاشة ثم توقف مسار الانتقال الديمقراطي، وهما عاملان يحتاجان إلى تحليل معمق واهتمام أكبر من جانب الفاعلين السياسيين وأيضًا من قبل المختصين في دراسة حركات التغيير والإصلاح في العالم العربي.

ويتعلق الأمر بالسياق ما بعد الاستعماري (ما بعد الكولونيالي) الذي ولدت فيه الثورة التونسية وتجربة الانتقال الديمقراطي. فمعظم الدول التي تخلصت من الاستعمار المباشر قبل أكثر من نصف قرن تعيش وضعًا مهجنًا يمزج بين مظاهر الاستقلال وأسباب التبعية، فلا هو وضع استقلال كامل وحقيقي، ولا هو وضع استعمار ظاهر وواضح.

ولذلك، تعيش هذه البلدان، ومن بينها تونس، في ظل هذا السياق المعقد وتتأثر به سلبًا في مختلف جوانب حياتها السياسية والاقتصادية والتعليمية وعلاقاتها الدولية. ولهذا السبب، كما يؤكد الكاتب، فإن عملية بناء ديمقراطية راسخة، أو بناء اقتصاد قوي ومزدهر، أو بناء نظام تعليمي متين وقادر على المنافسة، في سياق ما بعد كولونيالي، هي بمثابة معركة من معارك استكمال التحرر الوطني الحقيقي.

كما أن الهيمنة الخارجية المستمرة تعيق باستمرار محاولات النهوض والتقدم بأساليب مختلفة ومتنوعة، غالبًا ما تكون خفية وغير ظاهرة للعيان. إنما قد نجدها متجسدة في خطابات النخب "الوطنية" وأيديولوجياتها الضيقة وارتباطاتها المشبوهة، وفي هشاشة النظام التعليمي وتخلفه، وفي تبعية الاقتصاد الوطني واختلال توازنه، وفي الكثير من الأشكال الثقافية السائدة وفي "رموزها" الظاهرة والخفية.

ويبقى السؤال المطروح في التعامل مع هذه المعطيات، ما هو حجم وثقل تأثير هذا السياق الاستعماري في تجربة الانتقال الديمقراطي، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار العامل الخارجي، كمعطيين متساندين ومتكاملين في التأثير والضغط على التجربة الديمقراطية الناشئة؟

ولا شك أن فهم هذه العوامل وحجم تأثيرها في تجربة الانتقال الديمقراطي يساعد أيضًا على إدراك شروط الاستئناف الحقيقي، إن كان الاستئناف ممكنًا من الأساس، أو خيار إعادة التأسيس الشامل إن استدعى المشهد السياسي ذلك.

ومما لا شك فيه أن ما يعانيه التونسيون في ظل الحكم الفردي المطلق الذي فرضه قيس سعيد من ضغوط وأزمات متفاقمة على جميع الأصعدة وما خلفه من خيبة أمل مريرة بعد رهان خاسر عليه، يعيد اليوم لتلك العشرية الديمقراطية بعض الاعتبار والتقدير، ويعزز حجة القائلين بأن البديل عن الديمقراطية لا يمكن أن يكون أفضل منها على الإطلاق. وبالتالي تظل الحاجة لعودة الديمقراطية حاجة مصيرية وحتمية للبلاد.

إلا أن عبد المولى يرى أن مسار تجربة الانتقال الديمقراطي، من بدايته المتفائلة حتى نهايته المأساوية في 25 يوليو/تموز 2021، يستوجب نقدًا مزدوجًا وشاملاً.

أولًا؛ نقد جماعي للتجربة برمتها من أجل الوقوف على مواطن الخلل وأسباب التعثر ثم التوقف التام. وكذلك بهدف إبراز نقاط القوة الكامنة وتثمين ما أنجزته على أرض الواقع وما أضافته للحياة السياسية التونسية ولتجارب التغيير الديمقراطي في المنطقة العربية بشكل عام.

وثانيًا؛ نقد لحملة التشويه الممنهجة التي استهدفت تلك التجربة الديمقراطية، فطمست الكثير من الحقائق الجلية، وغطت على الكثير من الإنجازات الملموسة، وروّجت لسردية مضللة وخادعة، تمثل اليوم أحد التحديات الكبرى أمام جهود الاستئناف المنشود، أو إعادة التأسيس المتكامل لعملية ديمقراطية حقيقية وفاعلة.

وفي هذا الصدد، يعتبر عبد المولى أن العودة للديمقراطية من جديد أو إعادة التأسيس لا تعني بأي حال من الأحوال التخلي عن منجزات عقد الانتقال الديمقراطي ومكتسباته الثمينة، بل تعني تصحيح الأخطاء التي ارتكبت وتجاوز الإخفاقات التي حصلت وتجديد النخب السياسية بعد استخلاص العبر والدروس المستفادة.

فبناء ديمقراطية جديدة لن يأتي هذه المرة من فراغ، بل سيتأسس على تجربة راسخة مدعومة بخبرة واسعة في تدبير شؤون الدولة وإدارة الاختلاف بين الشركاء السياسيين واعتراف الجميع بالجميع الآخر.

ويقترح الكاتب مجموعة من الشروط والمتطلبات الأساسية التي يجب توفرها والتهيؤ لها بشكل جيد، من أجل إعادة الديمقراطية وترسيخها، تبدأ بالتعلّم العميق والاعتبار الجاد من دروس التجربة الأولى والمراجعات المستوجبة.

ثم التسلّح بمقاربات جديدة وروحية متجددة تتجاوز الأفق الأيديولوجي الضيق وتجترح أفقًا سياسيًا وطنيًا واسعًا، يسمو فوق الصراعات الحزبية الضيقة والمصالح الفئوية الآنية. وتتطلب هذه المقاربة الجديدة والضرورية من القوى والنخب السياسية الفاعلة رفع مستوى التنسيق والتعاون إلى ما يشبه ميثاقًا ديمقراطيًا استراتيجيًا (أشبه بالكتلة التاريخية)، يؤسس لديمقراطية مستدامة وقوية، لا تخضع للأهواء الحزبية المتقلبة ولا يزعزعها التنافس السياسي المحموم.

كما يفرض التأسيس للديمقراطية إعادة ترتيب الأولويات الوطنية بشكل جذري، بما يقتضيه ذلك من التوافق على أولويات وطنية حيوية وملحة، ستساعد بالضرورة على تخفيف حدة الصراعات والانقسامات الحادة والمعارك الصغيرة، وترشيد الخلافات في إطار رؤية وطنية مشتركة وموحدة.

ومما لا شك فيه أن هذا التأسيس الجديد للديمقراطية يجب أن يحظى بحماية كاملة من خلال سد الثغرات الموجودة في المؤسسة الدستورية التي انبثقت منها التجربة السابقة، بما يقتضيه من إقامة جميع مؤسسات الحكم الدستورية لضمان استقرار النظام السياسي، وتمكينه من تجاوز الأزمات المتوقعة في إطار دستوري سليم، عبر الاحتكام إلى محكمة دستورية قوية ومستقلة، يجب إنشاؤها بعيدًا عن الحسابات السياسية الضيقة والمصالح الحزبية الآنية.

ولا شك أن إشاعة ثقافة سياسية ديمقراطية تحتفي بالاختلاف والتنوع والحوار البناء من شأنها أن تجعل الثقافة الديمقراطية حالة ذهنية راسخة، وثقافة سياسية متجذرة، وموقفًا أخلاقيًا ثابتًا، يساعد على حماية القيم الديمقراطية والدفاع عنها ببسالة عند الأزمات السياسية الطارئة والمفاجئة.

ويتطلب نشر هذه الثقافة الديمقراطية وإشاعتها على نطاق واسع، وجود رافعة إعلامية وطنية قوية، تنطلق من مشروع التأسيس الديمقراطي، وتتبناه بكل جوارحها، ولا تكون أداة هدم وتشكيك وتقويض له.

ولا شك أن المنظومة الإعلامية على الرغم من حيويتها الظاهرة تحتاج إلى مراجعات عميقة وشاملة، لتكون جزءًا لا يتجزأ من هذا التأسيس الديمقراطي المتكامل، لتكون هي أكثر المستفيدين منه تنوعًا وحرية وانفتاحًا.

هذه الشروط والمتطلبات التي أشار إليها عبد المولى كخلاصة لكتابه القيم، تحتاج بلا شك إلى استجابة فعالة وتفاعل إيجابي من جانب نخبة وكفاءات وكوادر وطنية مخلصة لم تتمكن التجربة السابقة للأسف من استيعابها بشكل كامل، أو فشلت في الاستفادة المثلى من خبراتها وقدراتها، بسبب معايير الولاء الضيقة أو التسويات السياسية والحزبية غير المدروسة.

كما يتطلب هذا التأسيس الجديد الحاجة الماسة لقراءة حضارية جيوسياسية معمقة لتونس، تاريخًا وموقعًا ومكانة وأهمية، وبلورة سردية إيجابية ومقنعة، مرتكزًا لرؤية نهضوية واعدة ورائدة، تعبر بتونس إلى المستقبل المشرق على أرضية صلبة وبروح واثقة بالنصر.

تبدو تونس اليوم، على الرغم من منظومة الحكم الفردية المطلقة التي فرضها قيس سعيد، أمام فرصة تاريخية سانحة لتجاوز هذه المنظومة القائمة؛ منظومة أثبتت فشلها الذريع في تحقيق الحد الأدنى من الوعود التي بنت عليها سرديتها المضللة بعد الانقلاب على المسار الديمقراطي، فتحولت اليوم إلى خيبة أمل كبيرة للتونسيين جميعًا، وأكدت لهم بما لا يدع مجالًا للشك أن الحل لأزمة الديمقراطية لا يكمن أبدًا في الانقلاب عليها وتدميرها، وإنما في إصلاحها وتقويمها واستئنافها بكل قوة وعزيمة. ولعل هذه أيضًا كانت هي الخلاصة الرئيسية التي توصل إليها الكاتب في هذا الكتاب القيم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة